ادعمنا بالإعجاب

امتداد الأستاذ مختار الدين أحمد للميمني في تحقيق التراث العربي بالهند

 محمد سهيل  2015-04-10
محيطه الثقافي و نشاطه العلمي
ولد مختار الدين عام 14/نوفمبر 1924م في مدينة “نبته” بولاية بيهار بالهند، ينتسب إلى بيت عريق في العلم والمعرفة، كان أبوه ظفر الدين القادري من كبار علماء عصره، وله أكثر من مائة وخمسين مؤلفاً (1)، أخذ الأستاذ العلوم العربية – إلى جانب الدراسته الابتدائية – عن أبيه، وتلقى جزءا من العلوم الابتدائية عن رجال أسرته وجزءا منها في كتاتيب قريته. ثم التحق بمدرسة شمس الهدى الإسلامية، مكث بها ستة أعوام ينهل من معينها، وتخرج بشهادات “المولوي” و”العالم” و”الفاضل” بدرجات ممتازة، وحاز بجائزة “ميدالية السير فخر الدين الذهبية” لنجاحه الباهر على مستوى الولاية، وتفرغ بعده للتخصص في العلوم الإسلامية سنتين، وفي نهاية المطاف تسلم “ميدالية عبد العزيز الذهبية” للدرجة الأولى في الاختبار النهائي على مستوى ولايتي بيهار وأوديسا.


تلمذ الأستاذ بين يدي أساتذة عصره الذين اختلفت مذاهبهم الفكرية والفقهية، تأثر بثقافتهم المتنوعة، يتجلى أثر هذا الالتحام الرؤوي والانسجام الفكري والنظري في حياة الأستاذ حيث لم يتعصب لأي مذهب أو رأي فيما يتعلق بالأمور الفقهية. وجد في نفسه رغبة عارمة لإكمال الدراسات العليا في اللغة العربية وآدابها وكان مولعا بدراستها، لذا لم يكتف بالدراسة الدينية بل توجه إلي جامعة عليكره الإسلامية والتحق بها وحصل على درجة البكالوريوس ثم الماجستير في اللغة العربية وآدابها، ثم اشتغل بمدة منصب أمانة قسم المخطوطات بمكتبة “لتّن” بالجامعة. ولما أراد التسجيل في مرحلة الدكتوراه اقترح عليه محقق التراث العربي الشهير عبد العزيز الميمني (1888-1978) بأن يختار مخطوطة “الحماسة البصرية” لصدر الدين بن أبي الفرج موضوعا لبحثه، فبدأ يقدم أطروحته الجامعية تحت إشرافه، وتسنى له تحقيق المخطوطة في فترة سنتين بعد التسجيل في الدكتوراه، لم يستطع الأستاذ إنجاز عمله في مدة قصيرة, لو لم تكن عناية العلامة الميمني به، وصرح بها في مقدمة الحماسة البصرية شاكرا له وحافظا لجميله(2). وكان من بين أعضاء لجنة المناقشة لأطروحته المستشرق الألماني الشهير الأستاذ “فريتس سالم كرينكو” (1872-1953) من جامعة كيمبريدج، فأعجب بعمله في تحقيق المخطوطة غاية الإعجاب، وكتب إلى الأستاذ “هيلمت ريتر” (1892-1971) من جامعة فرينكفرت قائلا بأن جمعية المستشرقين الألمانية ستتولى أمر نشرها، ولكن تم طبعها في الهند، بعد حصول الدكتوراه عام 1952م, عين الأستاذ محاضرا بقسم اللغة العربية بجامعة عليكره الإسلامية، وفي منتصف العام 1953م زار الشرق الأوسط وانجلترا وفرنسا على منحة قدمتها له مؤسسة راكيفلر الأمريكية، وكان الهدف من هذه الزيارة إعداد بحث حول “النقد الاجتماعي في الأدب العربي الحديث” تحت إشراف المستشرق البريطاني الشهير هاملتون جيب (1895-1971)، فأنجز عمله الذي أنيط به إليه بإمعان ورؤية في فترة محددة، فأوصاه مشرفه معجبا بعمله بأن يطيل بقائه هناك ليقوم بدراسة أخرى، واشتغل الأستاذ بتحقيق كتاب نادر”جمهرة الإسلام ذات النثر والنظم” لكاتب سوري أبو الغنائم مسلم بن محمود الشيزري (ت622ه) مع دراسة نقدية، إلى جانب هذا، قد صحح ونقح ورتب كتبا ودواوين مع التعليقات والهوامش، وقرر الأستاذ جيب أن يواصل الأستاذ مختار الدين عمله كباحث تحت إشرافه، استفاد الأستاذ في هذه الفترة من مكتبات العالم الشهيرة من مكتبة بولدين والمتحف البريطاني ومكتبة الهند في لندن ومكتبات انجلترا وألمانيا وفرنسا وهولندا وغيرها من خزائن مكتبات البلاد الأوروبية, فعكف عليها ليل نهار وانتهى منه في أمد لم يستغرق إلا خمسة عشر شهرا، ويقول في هذا أحد الناصحين” لا أظن أي باحث من جامعة اوكسفورد قدم رسالته الجامعية ونال درجة الدكتوراه في مدة قصيرة كهذه(3).
شغل الأستاذ منصب المحاضر بقسم اللغة العربية وآدابها بجامعة عليكره الإسلامية في الفترة ما بين 14/يناير عام 1952م إلى 22/ يناير عام 1968م وارتقي إلى منصب الأستاذ المشارك ومدير قسم الدراسات الإسلامية في الفترة ما بين 23/يناير1968م إلى 10/مايو1968م. وظل رئيسا لقسم اللغة العربية بالجامعة منذ 11/مايو 1968م حتى تقاعد عن العمل، لقد تكرم الأستاذ بالإشراف على أكثر من إحدى وخمسين أطروحات للدكتوراه وخمس رسائل الماجستير في الفلسفة، تتناول معظم الأطروحات التراث العربي في القرون الوسطي في صورة تحقيق المصادر الأدبية وكتب التراجم والمؤلفات المهمة وتخريجها والتعليق عليها، إلى جانب الأدب العربي الهندي والأدب العربي المعاصر.
وكان الأستاذ يتشرف في العديد العديدة من المجامع العربية في الوطن العربي قلما تمتع بها من عاصره من العلماء الهنود، فمن أهمها مجمع اللغة العربية بدمشق، مجمع اللغة العربية الأردني بعمان، الجمعية العالمية لإحياء التراث الإسلامي بالقاهرة، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية بشرقي الأردن، مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي بالأردن. كما نال جائزة تقديرية من يد رئيس الجمهورية للهند عام 1989م لخدماته العلمية والأدبية في اللغة العربية وآدابها في الهند، ومن أهم إنجازاته إلى توسيع رقعة اللغة العربية وإحياء التراث العربي القديم والتعريف بآثار العلماء الهنود الذين عنوا بخدمة اللغة العربية وآدابها وبخدمة العلوم الإسلامية بالهند قديما وحديثا، وتأسيس مجمع علمي أدبي هندي على غرار مجامع اللغة العربية بالقاهرة ودمشق، يتفق معها بالأهداف والأغراض(4)، التي ذكرها الأستاذ في العدد الأول من مجلة المجمع الغراء ويسعى المجمع إلى تحقيقها، قال “وهذا المجمع العلمي الهندي يهدف-مع قلة وسائله- إلى:
·         تعميم اللغة العربية بين أبناء الهند والعناية بنشرها وآدابها
·         تنشيط البحث والتأليف في آداب اللغة العربية وفي تاريخ العرب وعلوم حضارتهم
·         إحياء المخطوطات والمؤلفات العربية بالطبع والنشر على أحدث الطرق العلمية
·         تشجيع ترجمة المؤلفات القيمة والآثار العلمية لعلماء الهند
·         استنهاض الهمم وبث الروح العلمية في البلاد (5)
تم تكوينه تحت إشراف الأستاذ عام 1966م (6)، وكان الهدف الأساسي المدعم من أعضاء المجمع، لما اعتزمه الأستاذ هو تحقيق هذه الأغراض العلمية من خلال إصدار مجلة عربية علمية أدبية، حتى تسنح لقراء العالم العربي فرصة الإطلاع على إنتاج الفكر الهندي العلمي والآثار الهندية في اللغة العربية وآدابها، وما قدم أبناء الهند من مساع مشكورة في تنشيط اللغة العربية وتعليمها. لما اعتزم الأستاذ على إصدار مجلة عربية وافقته على هذه الفكرة الموفقة أعضاء المجمع، لتكون لسان حاله وتعنى بنشر مقالات ودراسات باحثي الهند وأساتذتها وبحوثهم وتحقيقاتهم في مجال اللغة العربية في شبه القارة الهندية بصورة خاصة، وتكون فريدة من نوعها، إذ تصدر من الهند عدة مجلات باللغة العربية من المؤسسات العلمية الكبيرة، وهي جميعا تخدم اللغة العربية والعلوم الإسلامية وتسعى إلى توطيد العلاقات الثقافية بين الهند والبلدان العربية. ولكن معظم هذه المجلات بل كلها تهتم اهتماما مباشرا بالدراسات الإسلامية وتركز جهودها على نشر الدعوة الإسلامية وإيقاظ الروح الدينية، وأما الدراسات الأدبية الموضوعية والتحقيقات العلمية فتنشر فيها بين الفينة والأخرى. لسد ذلك الفراغ الهائل في مجال نشر الدراسات الأدبية والآثار العلمية الهندية أصدر الأستاذ مجلة المجمع العلمي العربي الهندي عام 1396ه/الموافق 1976م، اشتغل رئاسة تحريرها من أول اليوم حتى تقاعده عن العمل عام1984م. تلقى رسائل تهنئة وتشجيع وشكر من ذوي الحل والعقد من الهند ومن الأدباء العرب والمستشرقين، منهم السيد نور الحسن وزير التعليم بالهند وقتذاك، الأستاذ عبدالعليم شيخ جامعة عليكره الإسلامية سابقا، العلامة أبوالحسن علي الندوي أديب اللغة العربية الكبير، الشيخ يوسف الفوزان سفير المملكة العربية السعودية بالهند آنذاك، الدكتور عدنان الخطيب عضو المجمع العلمي العربي بدمشق، الدكتور يوسف عز الدين عضو المجمع العلمي العربي ببغداد، الدكتور ميشيل الخوري عضو مجمع اللغة العربية بدمشق، الأستاذ علي جواد طاهر من بغداد، الدكتور رودولف زيلهائم والدكتور البرت ديترش، كلهم أبدوا اعجابهم الشديد بالمجلة وأعربوا عن حبهم العميق ووفاءهم الخالص للأستاذ ولمشروعه. ومن أهم ما فعله الأستاذ خلال رئاسة تحرير المجلة إصدار مجلدين ممتازين يختصان بحياة العلامة الميمني ومآثره العلمية الجليلة على مرور مائة عام على ميلاده، وهما بمثابة وثيقة علمية وتاريخية عنه، ونشر رسائل المستشرق الكبير عبدالكريم جرمانوس(ت 1979م) إلى الاستاذ الأديب عيسى الناعوري(ت1918-1985م)(7). تزود المجلة – منذ إصدارها الأول إلى الآن – قراّءها وهواة اللغة العربية بدراسات تحقيقية وأدبية، ومقاربات بيانية ورؤيوية نقدية ما يتحفه به إياها أساتذة وباحثون من داخل الهند وخارجها من الدول العربية والغربية، وكان من المقرر أن تصدر المجلة مرتين في السنة كما ذكرها الأستاذ في الحفلة الإفتتاحية للمجمع العلمي العربي الهندي(8) ولكن بسوء الطالع وبسبب بعض الوجوه قد تصدر في صورة العدد المزدوج مرة في السنة، تواصل المجلة مسيرتها في خدمة اللغة العربية إلى اليوم.
الأستاذ مختار الدين أحمد والتراث العربي
دبجت يراعته الكثيرة النفع أكثر من خمسة وعشرين بحثا علميا ودراسة أدبية نقدية ورسالة تحقيقية، وهي إن دلت على شيئ فإنما تدل على سعة اطلاعه وعمق تفكيره وقدرته الفائقة على ضبط التراث العربي وتحقيق المخطوطات العربية، و تنقيحها من الشوائب التي تنقص من قيمتها، حتى اعترف بنفعها وقيمتها العلمية الأدباء والمحققون، فمنها مقالته المعنونة “نسخة تاريخية لمجمل اللغة لابن فارس (329-395ه)” حاول الأستاذ فيها التعريف بنسخة تاريخية لمجمل اللغة التي تحتضنها مكتبة جامعة ليدن، قد تيسرت له مطالعتها أثناء اقامته بإنجلترا، فالمقالة تفيض بمعلومات قيمة للنسخة وفيها شيئ كثير للباحث في ابن الفارس، نبه الأستاذ إلى أخطاء وجدت السبيل إلى النسخة من قبل الناسخ أو من امتلكها عصرا بعد عصر، وأتي بقرائن تؤكد رأيه تؤيد قولته، مثلا عند ما رأي العبارة التالية في موضع الغلاف” أما ترجمة أسامة وكيفية إعطاء هذا الكتاب له من العادل فهو مفصل في تاريخ ابن خلكان في الجزء الأول في حرف الهمزة فليراجع” تنبه الأستاذ للخطأ وقال “إن هذه العبارة عارية عن الصحة، فإننا لا نجد أي ذكر لنسخة مجمل اللغة هذه في ترجمة الأمير أسامة بن منقذ الشيزري ولا في ترجمة غيره في الطبعات المتداولة لوفيات العيان، ثم إن هذه النسخة لم تكن عند أسامة بل كانت لدى ابنه مرهف بن أسامة، كذلك لم تكن من هبة الملك العادل بل من هبة أحد المتوسلين إليه”(9) ومقالته عن ديوان بشار بن برد تطفح بمعلومات علمية وتعليقات تظهر معرفته الواسعة العميقة، يقول” ويقول الأستاذ كرينكو إنه لا يوجد أحد بعد القرن السابع الهجري يدعي برؤية الديوان” علق عليه الأستاذ قائلا ولكن هذا القول ليس بصحيح فقد وجد الخفاجي ( المتوفى 1069م) ديوان بشار وقد استفاد منه الخالديان أيضاً(10) ثم ذكر مصادر في إثبات رأيه، ومقالته المعنونة ب”حول ابن ميمون البغدادي” تبين لنا قدرته على استنباط المعلومات من التراث وكيف هو يسبر غور المصادر العربية ليخرج منها بفوائد الفرائد مثل الدرة اليتيمة في القلائد، كما يقول الأستاذ بأن ابن ميمون لم يذكره جرجي زيدان في كتابه، المصادر الأدبية القديمة لم تنبس ببنت كلمة عن حياته، لم يزودنا خير الدين الزركلي بمعلومات عن حياته، ولا بروكلمان ولا فؤاد السيد- صاحب فهرس المخطوطات المصورة- إلا النذر اليسير الذي لا يشفي الغلة، ولكن الأستاذ جال التراث العربي القديم وصال، بدقة روية حتى ظفر بمعلومات لم تكن تعرف عنها من قبل، ذكر كنية ابن ميمون و لم تكن تعرف كنيته، وهي “أبو غالب” عثر عليها من نسخة كتاب مجمل اللغة التي سبق ذكرها، وعثر على سن ولادته (17/محرم523ه) ووفاته(9/جمادى الأخرى597م) ومزاره بأنه في بغداد في مقابر قريش وأورد له بيتان كانتا مطموران في طيات التراث من قبل والبيتان كما يلى:         في يا قومي خصلتان أراني بهما الدهر ذات كبر و تيه
جلبي الشكر والمحامد لله وصدقي في كلما أحكيه (11)
هذه معلومات مهمة دقيقة ولم يهتد إليها حتى المؤرخون العظام من قبل، ويتسنى له العثور عليها مصادفة خلال مطالعة المخطوطات العربية القديمة في ألمانيا، بل نقول أن حبه وشغفه بمطالعة التراث ساقه إليها. ومقالته المعنونة ب”جمال الدين محمود بن علي الأستادار” والتي تستغرق ثلاثين صفحة، نموذج رائع لعمله في التحقيق، تتضمن المقالة معلومات واستدراكات تدهشنا من جانب، وتبين لنا مزاولته في عمله، كما أشار فيها إلى مصادر لمن يتوخى البحث عن الأستادار، وساق الحديث إلى مباحث دقيقة لا يخطر ببال أحد إلا أمثاله الأفذاذ، نقب كتب التراجم والمصادر القديمة وجمع موادا لا يستهان بها عن حياة الأستادار ووضّح حبه للعلم حيث أن الأستادار أسس مكتبة عظيمة تعد من أعظم المكتبات الإسلامية في القرون الوسطى، تظهر قيمتها تماما من حيث أن معظم الكتب الموجودة فيها كانت مكتوبة بأيدي أعلام العلماء المسلمين، وتزداد قيمتها عندما يبلغنا أن ابن حجر العسقلاني كان ممن تولوا أمانة هذه المكتبة مدة لاتقل عن خمس وعشرين سنة نظرا لجودتها وأهميتها، و قال الأستاذ إن الجدير بالذكر بالنسبة لهذه المكتبة المحمودية قد استفاد منها أعلام المسلمين أمثال قاضي القضاة علم الدين البلقيني(868ه) شيخ الإسلام شرف الدين يحيى المناوي الشافعي(798-871ه) وابن حجر العسقلاني(773-852ه) و جلال الدين السيوطي(849-911ه)(12). ونشر مقالة علمية في مجلة جامعة كلكتة، ذكر فيها عن أشعار لم تنشر لأبي العتاهية، عثر عليها في كتاب جمهرة الإسلام ذات النثر النظم لمحمد بن محمود، وعلق في نهاية المقالة تعليقا يرمز إلى استيعابه للموضوع، وقال “يخلو ديوان أبي العتاهية المطبوع من بيروت الذي أعده و رتبه العلماء اليسوعيون من هذه المقطوعات الشعرية لأبي العتاهية”(13). ومقالته التي ألقاها في المؤتمر السنوي الأول للمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية(مؤسسة آل البيت) بعمان الأردن في شهر أبريل 1981م، والتي طبعها بعد في العدد التاسع لمجلة المجمع العلمي الهندي، ملؤها المعارف القيمة النادرة، قدم فيها عصارة دراساته العلمية وقراءاته النقدية طول حياته، ذكر فيها عن قيمة المخطوطات النادرة التي توجد في مكتبات الهند، وعدّدها وأشار إلى مظان وجودها في خزانات الهند.
نستطيع القول بعد مطالعة مقالاته وتحقيقاته بأنها تتضمن معلومات واستدراكات لا يجد إليها سبيلا سواه، فربما يرجع الفضل إلى مصاحبته العلامة الميمني الذي ورثه الأستاذ ذوق التحقيق والضبط والتنقيح، ونراه يزيد في مقالاته مباحث وتعليقات مفيدة ويقدم آراء نافعة من عنده، حينما يقوم بتعريف مؤلَف يمت بصلة إلى التراث العربي، يحاول استيعاب المعلومات عنه قدر المستطاع، وله مقالات قيمة مفيدة تفيض بالعلم والمعرفة تتعلق باللغة العربية وآدابها ولكنها بالأردية.
تحقيق الحماسة البصرية التي تعد تاج عمله في التحقيق، تتبلور فيها جهوده الجبارة ومنهجه في تحقيق التراث. الحماسة البصرية (المجلدان) من تأليف صدر الدين بن أبي الفرج البصري المتوفى سنة 659ه/1260م، اعتنى بتصحيحه والتعليق عليه الأستاذ مختار الدين أحمد، طبع بإعانة وزارة المعارف للحكومة العالية الهندية تحت مراقبة الدكتور عبدالمعيد خان، مدير دائرة المعارف العثمانية صدرت الطبعة الأولى من مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد الدكن- الهند سنة 1383ه/1964م، تم نشر الكتاب من عالم الكتاب بيروت عام 1983م،
أسهب الأستاذ الكلام في مقدمة الكتاب بذكر الحماسات المتداولة وأرجع الفضل إلى أبي تمام (ت 231ه) في انتخاب المقطعات الشعرية والقصائد وتسميتها بالحماسة، لأنه أول من استطرف هذا الطريق الجديد في انتخاب الشعر وترتيبه، وبين في المقدمة أن البحتري (ت284ه) ثاني اثنين في هذا الباب وحذا حذو أبي تمام مع أنه أنشأ فيه مسالك أخرى وزاد في تبويبه، بسط الأستاذ الكلام في حماسة أعلم الشنتمري(410-476ه)، ودرأ الشبهات التي تحوم حولها، وذكر اختلاف العلماء في تعيين هل هي حماسة مستقلة منفردة أم هي تهذيب لحماسة أبي تمام مع شرحها وإيضاحها؟ وذهب الأستاذ إلى أنها حماسة مستقلة ليست بشرح لحماسة أبي تمام، وبرهن قوله بأدلة مقنعة أتى بها من المصادر العربية تأييدا لرأيه وتأكيدا لقوله، كما ذكر حماسات أخرى أو مجموعات رتبت على طراز الحماسات مع الأشارة إلى مظانها في مكتبات العالم، منها الحماسة للشاطبي(482/547ه) والحماسة للشميم الحلي(ت 601ه) والحماسة المغربية لأبي الحجاج جمال الدين يوسف بن محمد بن إبراهيم الأنصاري الأندلسي(ت652ه) وقدم بعض المعلومات المهمة عن هذه الحماسة، التذكرة السعدية لمحمد بن عبدالرحمن بن عبدالمجيد العبيدي( كان حيا إلى السنة 702) وذكر مآخذها ونقد بروكلمان على عدم توفير المعلومات عنها، وقال في الحاشية على الصفحة الحادية عشرة من المقدمة” وليس عنده علم بالمصنف فقد اكتفى بذكر اسمه”، الحماسة العسكرية للأديب الشهير أبي هلال العسكري(ت395)، وحماسة الخالديين، وأصل الإسم للكتاب هذا “الأشباه والنظائر من شعراء المتقدمين والجاهلية والمخضرمين” وقد اشتهر بإسم حماسة شعر المحدثين وحماسة الخالديين وهو تأليف الصنوين أبي بكر محمد(380ه) وأبي عثمان سعيد، حدد تاريخ وفاة الأخير الذكر بالأدلة المقنعة وهو (400م)(14)، وإن كان من قبل موضع اختلاف بين المؤرخين أمثال بروكلمان (1868-1956م) و ياقوت الحموي(574-626ه) وابن شاكر الكتبي(ت734ه). وبسط الكلام في حماستهما مبينا محاسنها رافعا مكانتها من بين الحماسات الأخرى، استحسن المنهج الذي اختاره الخالديان في ترتيب الحماسة لأنهما قد شرحا الأبيات وأوضحا التلميحات والأخبار المجملة المحتاجة إلى الإبانة، وقال”قد استخرجا مخرجا جديدا ونحوا لطيفا في ترتيب حماسة و تأليفها و دعا الطريق العتيقة المدوسة”(15)، وأشار الأستاذ إلى المكتبات التي توجد فيها أقدم النسخ لها، وبعد ذكر هذه الحماسات أتى إلى الحماسة البصرية ملقيا الضوء على أهميته الأدبية لأنه يرى إذا كان حماسة أبي تمام السابق فهذه هي اللاحق، ثم سرد أسماء المتقدمين الذين استفادوا منها، مثلا بدرالدين العيني(762/855ه) جلال الدين السيوطي(849/911ه) وابن شاكر الكتبي، خضر الموصلي (ت1007ه) عبدالقادر المغربي(1030/1093) وغيرهم، وأعرب عن حزنه العميق عندما اطلع على أن المؤرخين العظام لم يعتنوا به ولم يذكروا أخباره في مؤلفاتهم، وتعجب من خلو جميع كتب التراجم والتاريخ من بيان أحواله وترجمته، فخاض المصادر الأدبية القديمة وبالغ في تفحصها تمام الغاية، تحمل كثيرا من المشاق في هذا، فظفر بمعلومات مبعثرة عن حياته وإن كانت هي قليلة ولكنها عظيمة الأهمية، جمعها في المقدمة، حدد تاريخ وفاته ولكنه لم يتمكن من الاطلاع على تاريخ ولادته، ذكر مآخذ الحماسة البصرية ولم يكتف بذكرها ومكانتها العلمية وطرق الاستفادة منها، بل نراه يغربل الحماسة كناقد ويدل على الأخطاء التي وقع فيها المؤلف أكثر من عشرات المواضع في الكتاب آخذا على مثالب الكتاب، وأورد أمثلة كثيرة تستغرق خمس صفحات من الصفحة 30 إلى 34. وعرف بجميع النسخ التي توجد في مكتبات العالم بشمول كاملها وناقصها مع التركيز الخاص على أمهاتها وأصولها التي لا تعدو الاثنتين أو الثلاث، فسجل أرقامها ودل عليها ليسهل الطريق لمن يريد البحث عنها وفيها في المستقبل، وعين أم النسخة من بينها مع ذكر وجوه تفضيلها على الأخرى، فكانت أمامه ثلاث نسخ، وهي مخطوطة مكتبة نور عثمانية بإستانبول ونسخة الاستاذ الميمني المكتوبة بقلم يحيى بن محمد الجزائري ونسخة مكتبة الأستاذ الميمني الأخرى المنقولة عن نسخة عبد الرحمن عبدالله البغدادي، وهي نقلت من مخطوطة مكتبة راغب باشا المكتوبة سنة 654ه، وهي من أقدم النسخ وتم نسخها في حياة المصنف نفسه.(16)
المنهج الذي طبقه في التحقيق هو أنه عندما رأى المقطعات الشعرية أو القصائد التي أخذها صاحب الحماسة من حماسة أبي تمام أو كانت هي منشورة في دواوين أصحابها أو وردت في الكتب المتداولة المشهورة، كالأصمعيات والمفضليات وجمهرة أشعار العرب، لم يذكرها كاملا بل اكتفى بإتيان البيت الأول منها ثم ذكر عدد الأبيات التي أوردها صاحب البصرية من تلك القطعة أو القصيدة، ولكنه حينما يبدي له أن هذه الأبيات المحذوفة برواية أبي تمام أو من الكتب المذكورة آنفا لم تكن في مصادر القطعة من الدواوين والحماسة، ذكرها كاملة ولم يحذفها، معنى ذلك أن الأستاذ أمعن النظر تماما في جميع المآخذ العربية بالتفات تام شاق، لكي لا يفوته شيئ ينقص من أصل الكتاب، كذلك قام بتصحيح الروايات من القصائد، أجهد نفسه في تصحيح الكتاب وتنقيحه حتى قام بتخريج الأبيات عندما مست الحاجة إليه، مثلا نظر أولا إلى الحماسات المتداولة وعلى رأسها حماسة أبي تمام، إذا وجد خلافا في الروايات او زيادة بيت أو أبيات أبقى القطعة على حالها وذكر في الحواشي الخلاف أو الزيادة من تلك الأبيات التي لم يجدها في الحماسات ، وإذا توافقت الأبيات ذكر البيت الأول وأشار بالرجوع إلى صفحات الكتب التي توجد فيها تلك الأبيات، وإذا وجد قطعة لا توجد في مصادر الحماسة البصرية راجع أمهات الكتب والمصادر الأدبية وكتب التراجم وكتب العلماء القروسطيين، أمثال الأصمعي والجاحظ ، وابن المعتز وابن رشيق، وابن قتيبة وابن منقذ، وياقوت الحموي والبيهقي،والدميري وأبوعلي القالي، وأبو الفرج الأصفهاني والسيوطي وغيرهم من الفطاحل العظام، كذلك نرى الأستاذ يقدم ترجمة الشاعر الغير المعروف ولو بإيجاز في الحواشي، ويشير إلى المصادر لمن يريد التفصيل، وعندما عنت له زلات المؤلف في نسبة الأبيات إلى غير صاحبها وأن المؤلف قد شرق فيها وغرب، حاول أن يعزوها إلى صاحبها، مثلا أورد صاحب الحماسة بيتين، وهي
إذا حاجة ولتك لا تستطيعها     فخذ طرفا من حاجة ليس تسبق
فذلك أحرى أن تنال جسيمها  وللقصد أبقى في الأمور وأرفق (17)
ونسبه إلى الأعشى عبدالرحمن بن عبدالله الهمداني شاعر أموي، تنبه الأستاذ لخطأه وذكر في الحاشية أن البيتان لأعشى ميمون لا لأعشى همدان وأشار إلى المصدر مبرهنا قوله، والأمثلة كثيرة في الحماسة.
تظهر أهمية الحماسة هذه من خلال تقريظات الأدباء المعاصرين للمؤلف في نهايتها، منهم السلطان الملك الناصر داود بن عيسى الأيوبي(603-656ه) الوزير مؤيدالدين إبراهيم بن القفطي(594-646) فتح الدين إسحاق بن يعيش(601-659) فخرالدين حنين النحوي الواسطي(؟؟) الصاحب كمال الدين عمربن العديم(586-660ه) وغيرهم من الأفذاذ. وهي أكبر حماسة من جميع الحماسات عددا لأبياتها، فأبوابها أربعة عشر وقطعاتها ألف وستمائة وثمان وأربعون (1684) وذكر المؤلف فيها خمسمائة شاعر تقريبا وأكثر من سته آلاف بيت لهم(18) لذا تعد هذه الحماسة المصلي وحماسة أبي تمام هي المجلي في الصيت والأهمية. كما للأستاذ تحقيقات, منها:
·         فضائل من إسمه أحمد أو محمد لإبن بكير البغدادي
·         المختار من شعر ابن الدمينة اختيار الخالديين
·         رسالة في ضبط مواضع من الحماسة لأبي هلال العسكري
·         رسالة أبي العباس المبرد إلى الواثق بالله
·         الاغتباط بمن رمي بالاختلاط لسبط ابن العجمي
يتجلى أسلوب الأستاذ في تحقيق المخطوطات العربية والتراث العربي في تصحيح تحريف أو غلط يقع في متن المخطوطة من قبل ناسخ أو ناقل. تحقيقاته واستدراكاته على ما فاته ممن دارسوا الموضوع من قبله تنبئنا عن سعة اطلاعه وعمق تفكيره ونفوذ بصيرته وتوصله إلى معلومات خفية، وقدرته على استنباط النتائج من المصادر الأدبية. تابع نهجا علميا دقيقا في جميع أعماله كما اختار نفس المنهج العلمي الجديد الذي اختاره العلامة في تحقيق سمط اللآلي، تابع مسيرة أستاذه الميمني في فن التحقيق والضبط، وأدرك غايته من التحقيق وهي تقديم المخطوطة صحيحا كما وضعها أو أراد المؤلف وضعها، اهتم بمراعاة قواعد التحقيق أثناء عمله لأنه توفرت له فرص للبحث تحت إشراف عدد من المستشرقين، واستفاد من توصيات العلامة الميمني وآرائه، واقتفى أثره في معرفة المخطوطات العربية النادرة وقيمتها ومظان وجودها.


الهوامش
1.    مختار نامه ص 13 إعداد د. عطاء خورشيد، مهر إلهي نديم مطبعة عليكره هيريتيج 2002م
2.    تقديم كتاب الحماسة البصرية 1/49-50 تحقيق مختار الدين أحمد مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد الدكن الهند 1383ه/1964م
3.    مختار نامه ص 13
4.    مجلة المجمع العلمي العربي الهندي ص 219 المجلد الثاني العدد المزدوج 1-2 جمادى الأخرى 1397ه/ يونيو 1977م
5.    مجلة المجمع ص 10 من افتتاحية الكتاب المجلد الأول العدد الأول جمادى الأخرى 1396ه/ يونيو 1976م
6.    مجلة المجمع ص 291 المجلد الثاني العدد المزدوج 1-2
7.    راجع مجلة المجمع المجلد السابع العدد المزدوج 1-2 شعبان1402ه/ يونيو1982م
8.    انظر للتفصيل مجلة المجمع ص 291 المجلد الثاني العدد المزدوج 1-2
   9.    راجع للتفصيل مجلة المجمع ص 152 وما بعدها المجلد الأول العدد الأول
   10.                       مجلة المجمع ص 163 المجلد الأول العدد الأول
  11.                       مجلة المجمع العلمي الهندي ص 231 المجلد الخامس العدد المزدوج رجب 1400ه/ يونيو1980م
   12.                       مجلة المجمع العلمي الهندي ص 15-23 المجلد التاسع العدد المزدوج 1-2 رمضان 1404ه/ يونيو 1984م.
   13.                       مختار نامه ص 161
   14.                       المختار من شعر ابن الدمينة ص م14 اعتنى به وحققه مختار الدين أحمد معهد الدراسات الإسلامية جامعة عليكره الإسلامية1962م
   15.                       الحماسة البصرية ص 18 تحقيق مختار الدين أحمد مطبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدرآباد الدكن – الهند1383/1964
   1  6.                       الحماسة البصرية 1/36
   17.                       الحماسة البصرية 1/33
    18.                       الحماسة البصرية 1/49

مصدر المقال 

مواضيع ذات صلة
أدبيات, الأشعار, الكتب, دراسات, مقالات, نداء الهند،,

إرسال تعليق

1 تعليقات

  1. مجلة نفحات المدينة تفتح أبوابها على مصراعيه في العدد الثالث عشر: رحلة ثقافية تحفيزية غنية بموضوعات إسلامية

    ردحذف

أكتُبْ تعليقا